لا

زال أكتوبر محفورا في الذاكرة هذا ما أكدته الندوة التي نظمتها مكتبة مبارك العامة بالمنصورة وشاركت فيها مدرسة الثانوية بنات العريقة واستضافت أبطال حرب أكتوبر ابناء الدقهلية ابراهيم عبد العال وحاتم عبد اللطيف ليقص كلا منهما ذكريات حرب العبور وكيف ضحي أبناء مصر البواسل بأرواحهم ودمائهم في سبيل الوطن , وكيف حطم الجنود أسطورة خط بارليف.,وكيف أصبح الجيش المصري قادرا علي عبور اعظم مانع عسكري في التاريخ فجأة صباح يوم العبور، وانما استطاع ان يصبح قادرا علي هذا بسبب ما حدث قبل ذلك اليوم وبشكل مستمر منذ مطلع عام 1969، عندما قرر جمال عبد الناصر شن حرب الاستنزاف علي قوات العدو الاسرائيلي الشرقية لقناة السويس। ولم يكن هذا قرارا سهلا، فقد جاء بعد عام ونصف فقط من اكبر هزيمة عسكرية عرفتها جيوش ثلاث دول عربية مجتمعة امام اسرائيل وحدها، فيما عرف بحرب الايام الستة، والتي لم تستغرق في الواقع سوي ست ساعات فقط وليس ستة ايام، وهي الساعات التي استطاع فيها الطيران الاسرائيلي تحطيم القوات الجوية المصرية بأكملها وهي قابعة في مهاجعها علي الارض، وبذلك اصبحت القوات المصرية مكشوفة علي رمال سيناء الشاسعة بلا غطاء، وقد راحت تهرول في فرار مخز بعد ان صدر لها قرار الانسحاب، وكان انسحابا غير منظم، عاد منه الجيش المصري الي قراه ومدنه واهله ليتعرض الي حملة هائلة القسوة والمرارة والنقد والسخرية، حتي انه لم يكن لدي المصريين علي مدي عام كامل او يزيد بعدها سوي اطلاق وتبادل النكات اللاذعة التي تتوغل كل نكتة منها في فؤاد كل مصري كالسكين الحاد الذي يتقلب في الداخل، وراح المصريون يضحكون علي انفسهم ضحكا كالبكاء وكالدواء في آن واحد। وكانت هذه النكات اليومية تفعل في جسد الارادة المصرية فعل مشرط الجراح الذي يتوغل في الجسد المريض قاطعا اجزاءه الميتة وخلاياه المريضة المتعبة، ومسيلا منه الكثير من الدم الفاسد، ولك ان تتخيل مشاعر القيادة السياسية والعسكرية المصرية وهي تعمل في هذا المناخ بالغ القسوة والمرارة، وهم المطعونون في كل رصيدهم وتاريخهم وآمالهم بطعنة الهزيمة الرهيبة وآثارها الهائلة من ضياع للارض وخراب للاقتصاد والموارد والهيبة والمكانة في العالم كله. كان علي مصر ان تبدأ من الصفر، من قاع القاع، وامامها ليس فقط عبء وتحديات البناء المادي لجيش انهار تماما وترك كافة معداته في الصحراء، ولكن ايضا تحديات البناء النفسي لارادة الامة التي كان يبدو مما تفعله في نفسها في تداولها لهذه النكات اللاذعة ضد جيشها وافراده، اي ضد نفسها وروحها، انها قد استسلمت للذة جلد الذات في مازوخية جماعية مخيفة هي عقاب جماعي للذات وللقيادة معا.

بدأت حرب الاستنزاف في يناير 1969 بوابل هائل مستمر من القذائف عبر القناة لمدة ثمانين يوما متصلة وعلي طول خط المواجهة بطول قناة السويس। وكانت القذائف تصب علي الجنود الاسرائيليين المتحصنين وراء ما يعرف بخط بارليف। وقد تسبب هذا الوابل المستمر من القذائف في خسائر جسيمة لدي الاسرائيليين دون ان يؤدي الي انهيار الحائط او الي اخلاء الاسرائيليين لمواقعهم। وقامت اسرائيل بهجمات انتقامية مضادة ليس فقط ضد القوات المصرية علي القناة ولكن ايضا داخل العمق المصري ضد اهداف استراتيجية وعسكرية علي طول الاراضي المصرية.

ولكن بالرغم من الخسائر في الارواح والممتلكات التي اوقعتها حرب الاستنزاف علي الجانب المصري، فقد كانت ضرورية من الجهتين المعنوية والعسكرية معا، فمعنويا كان لابد علي اثر الهزيمة الفادحة من اعادة بناء الثقة في النفس بشكل تدريجي، وكان لا بد من المحافظة علي سخونة خط المواجهة كاعلان مستمر من جانب مصر انها لا تنوي قبول الوضع الراهن.. وكان عبد الناصر يلح في كل خطبه علي ضرورة ازالة آثار العدوان ولم يكن يتحدث عن استسلام من اي نوع، لكنه اعلن قبوله لسلام قائم علي اعادة الارض مع حل عادل للقضية الفلسطينية.

في تلك الفترة ايضا، قدموا لعبد الناصر ما عرف بمشروع روجرز، والذي يقضي بوقف القتال في حرب الاستنزاف لمدة ثلاثة اشهر لتهدئة الامور والمشاعر، ثم يجري بعدها التفاوض بين الطرفين علي اساس انسحاب اسرائيل من سيناء مقابل السلام، ووافق عبد الناصر علي مشروع روجرز، وكان ذلك بعد ان سأل وزير حربيته الفريق اول محمد فوزي وقتها: كم من الوقت تحتاج لكي تنقل صواريخك الي خط قناة السويس لكي تبدأ حرب عبور القناة والوصول الي ممرات سيناء والتحصن بها وهي ممرات ميتلا والجدي (وهو نفس ما حدث في حرب العبور بعد ذلك) فأجاب محمد فوزي انه يحتاج الي شهرين، فقال عبد الناصر: سأعطيك ثلاثة! (وهي نفس فترة الامتناع عن القتال التي اشترطها مشروع روجرز) ورحل جمال عبد الناصر في 30 ايلول (سبتمبر) 1970 بعد ان توقف القتال في الشهر السابق آب (اغسطس) بموجب اتفاق وقف اطلاق النار وكانت الخطة 200 لعبور القناة الي الممرات تسير في مسارها المحدد لها كما وضعها محمد فوزي واعتمدها جمال عبد الناصر... حكي الأبطال عن الذكريات وسالت دموعهما حبا في تراب الوطن الغالي وكيف كان الجندي يعبر صائما حاملا علي ظهره مايزيد علي المئة كيلو دون أن يشعر طمعا في الشهادة , يجب أن يعلم الجيل الجديد حجم التضحيات التي قدمها الجنود لتعود أعلام الوطن عالية خفاقة علي كل شبر .